اعداد الطالب
حداد موسى
كلية الحقوق
والعلوم السياسية جيجل
مدرسة كونهاغن
– مدرسة
كوبنهاغن L'école de Copenhague :
1-3 – التأسيس: لقد شهد شمال أوربا ولادة حركة
لسانية متميزة في مطلع القرن العشرين تأثرت في نشأتها بمبادئ دي سوسير – المؤسس
الأول للسانيات البنيوية – ثم تطورت لتستقل بمنهج متميز و أفكار جديدة (03) .
و
نشأت هذه الحركة على يد عالمين لسانيين
دانماركيين هما : أوتويسبرسن ersen jesp .oHo (1860ـ 1943) ، و هو لدربدرسن Holder pedersen،و قد أثرت
مؤلفاتهما في البحث اللغوي فكتب الأول كتابه "اللغة"
الذي نشر سنة 1922، و كتب
"فلسفة النحو" الذي طبع سنة 1924، و كتب الثاني "علم اللساني في القرن التاسع
عشر" (02) .
ثم تبلورت هذه الحركة كمدرسة سنة 1931 حاملة مشعل اللسانيات البنيوية مع إبعاد اللغة و
دراسة ظواهرها عن التأثير الفلسفي و الأنتروبولوجي « و لئن كان بعض الباحثين
ينظرون إلى هذا العمل في ميدان اللسانيات على
أنه لا يمثل مدرسة بأتم معنى الكلمة ، بل مجرد نظرية لسانية تعرف باسم
الجلوسيماتيك (
(Glossematies، فإن بعضهم
الآخر يعدها مدرسة كوبنهاجية أو مدرسة دانماركية لأن مؤسسيها الأوائل دانماركيون »(03)
و قد تمثلت مبادئ
هذه المدرسة في أفكار و أعمال روادها الأوائل أمثال:
فيجو بروندال Viggo Brondal ( 1887ـ 1942) صاحب كتاب "أجزاء الكلام" ، و أولدال Hans uldall ، و لويس هلمسليف louis Hjelmslev( 1899ـ 1965) (01)،
الذي كتب مؤلفه الشهير "مقدمة في نظرية اللغة"، و الذي يعتبر من أهم و
أبرز مؤسسي هذه المدرسة نظرا للخدمات الجليـــلة التـــي قدمها في سبــيل بلورة
المبادئ العامــة لهــذه المدرسة .
و تقوم هذه الدراسة على النظرية
المنطقية للغة ، حيث اعتبرت اللغة نظاما صوريا يقوم على المنطق و ذلك أن فيجو
بروندال و لويس هلمسيلف قد تأثرا بالمنطق، « و يعد هذان اللسانيان رائدان من رواد
اللسانيات البنيوية ، و لم يمنعهما تبنيهما للمنهج البنيوي من أن يكونا مؤسسيين
للسانيات الفلسفية المنطقية » (02)
.
و كان الرائد
الأول لهذه المدرسة فيجو بروندال و بعد وفاته أصبح لويس هيلمسلف هو المنظر
لهذا الاتجاه الذي تحول إلى النظرية الجلوسيمية ، و من أهم أعمال بروندال التي
ترتكز عليها مدرسة كوبنهاجن في دراستها للظواهر اللسانية :
ـ الاعتماد على معيار التقابل لدراسة الظواهر
اللسانية المختلفة.
ـ الجمع بين أفكار دي سوسير و بين المنطق
الرياضي ، فقد تأثر بروندال بأرسطو وكانط و برجسون ، كما أحيا بروندال العلاقة بين
اللغة و الفكر ، و حاول أن يعرف منطق اللغة(03). حيث ركز على ملاحظة الطرق
التي يمكن أن تكشف عن المقولات المنطقية في الحقائق اللغوية، و قد اعتبر أن
المفاهيم المنطقية يمكن أن تطبق على كل النظم اللغوية.
أما لويس هلمسليف فقد ركز
اهتماماته اللسانية على بعض المفاهيم المنطقية الرياضية و التي نتج عنها توجه
لساني سماه بالنظرية الجلوسيمية glossématique ، و هو مصطلح
اخترعــه هلمـسليف « مشتق من الكلمة اليونانية Glossa بمعنى كلمة أو لغة، ومنها Glossary بمـعنى قائمة مفـردات » (04)
. ومعنى الكلمة : لغة الرياضيات.
و يدل مصطلح الجلوسيمية
على توجه خاص في الدراسة اللسانية أعلن عنه خلال مؤتمر للحلقة الدولية لعلم اللغة
بكوبنهاجن سنة 1936 (05) .
و ينطلق هلمسيلف في نظريته من مفاهيم دي سوسير حول قضايا اللغة ، و التي وردت في محاضراته،
غير أنه دقق في عرضها بدرجة كبيـرة مـــن التجــريد النظــري ، و صياغة المفردات و
المصطلحات الجديدة ، « و تقوم الجلوسيماتيك على النقد الحاد للسانيات السابقة التي
تدخل في تقنيات موضوعها أحداثا و ظروفا خارجية عــن اللسان نحو معرفة القضايا ما
قبـــل التاريـخ و التاريخيـــة، و الجوانب الفـــيزيائية و الـــظواهر الاجتماعية
و الأدبـيـــة و الـــفــلســفية و السيــكولوجــية »(01)
كما حاولت هذه النظرية أن تتميز عن مدرسة براغ بتوظيفها لمفاهيم لغوية مختلفة
مرتبطة بالمفاهيم المنطقية الرياضية، كما لم يكتفي يلمسلف بمجرد عرض لأعمــال دي
سوسير - ولاسيما البنيوية- و شرحها
على الصورة التي وردت في مؤلفه القيم
(محاضرات في علم اللغة العام) بل قام ببسط مفاهيمها و التدقيق في عرضها لصياغة نظرية
بنيوية لسانية صارمة ذات توجه منطقي رياضي. يقول الدكتور ميشال زكريا موضحا هذا
العمل: « بدأ يلمسلف في 1935 في تطوير نظرية الجلومسيماتيك التي لم تنسب إلا إليه، فهو مبدعها
و مؤسسها، و هي نظام من القضايا و القواعد الأولية .
(Asciomes)التي
تندرج ضمنها مفاهيم دي سوسير الأساسيــة عبر منهجيــة استنبـاطية دقيــقة، و ساعده
في ذلك إلمامه باللغات قديمها و حديثها » (02) و هذا ما قادني – و الحالة هذه –
إلى التساؤل عن حياة هلمسليف و أفكاره، فمن هو يلمسلف؟
2-3- لويس هلمسليف Lois Hjebmselev :
يعتبر يلمسلف المؤسس، و المنظر، و
الناطق الأول باسم حلقة كوبنهاجن، حيث تقدم عام 1935 بنظرية جديدة حول الفونيم سماها بالنظرية الجلوسيماتيكية Glassematique و نشرها في كتاب صدر سنة 1943 بعنوان "مقدمات لنظرية في
علم اللغة"، و هو من اللسانيين الأوائل الذين اهتموا بصورة جدية بالرياضيات و
المنطق الرياضي و المنهجية العلمية (03).
و لا عجب في ذلك فيلمسلف قد نشأ في أسرة شهيرة بالعلوم، فقد كان لوالده الذي شغل
منصب أستاذ الرياضيات، و تقلد رئاسة جامعة كوبنهاجن، أثر عظيم في نبوغه في مجال اللسانيات.
التحق
يلمسلف بجامعة كوبنهاجن سنة 1916، و ما إن فرغ من دراسته الجامعية حتى غادر وطنه طالبا للعلم و
المعرفة في بعض بلدان العالم، فدرس بلتوانيا في عام 1921، و ببراغ في عام 1932، ثم سافر بعد ذلك إلى باريس، و أقام هناك عامين كاملين من 1926 إلى 1927.
و اتصل خلال هذه الفترة بميي Meillet و فندريس Vendryes، و تابع محاضراتهما في اللسانيات،
كما تعرف خاصة على أفكار دي سوسير و مناهجه التي ساعدته على إرساء دعائم نظريته
العالمية الجديدة: الغلوسيماتيك.
و
قد تأثر يلمسلف بالمنطق الرياضي و المنهج العلمي السائد آنذاك، و لاسيما المنطق
النمساوي لكارناب (Carnap). و هذا ما نلحظه في الأسس
العقلانية التي بنيت عليها نظريته. و قد توج عمله بمناقشة رسالة دكتوراه بعنوان
"دراسات بلطيقية" فــي عام 1932. و بعد هـذه الجهـــود التــي بــذلها فــي العلــم و التحصيل
المعرفي، شغل منصب أستاذ اللسانيات في جامعة كوبنهاجن، و ظل يحاضر هناك حتى خلف بدرسن
(Pedersen) سنة 1937 في كرسي اللسانيات المقارنة. (01)
و
مما لاشك فيه أن يلمسلف يعتبر مدرسة بنيوية قائمة بذاتها، نظرا لتعمقه الجاد في
آراء دي سوسير اللسانية، و من ثم شق لنفسه طريقا (أو منهجا) أصبح لا يوصف إلا به و
هو الجلوسيماتيكية (02).
ومن مؤلفاته:
1 ـ
مبادئ النحو العام (1928)
2 ـ مقدمات لنظريات في علم اللغة (1934)
3 ـ اللغة (1963)
بالاضافة إلى مجموعة من المقالات
اللسانية والتي نشرها عام 1953 بعنوان Essais linguistiques) ) في مصنف تضمن خمسة عشر مقالا
منها: مقدمة إلى اللسانيات( عام 1937)، واللسانيات البنيوية(عام 1948) (03)
3-3- منهجية وطريقة هلمسيلف في التحليل( منهج الدراسة
الغلوسيمية):
تعتبر النظرية الغلوسيمية التي
أرسى هلمسيلف مبادئها تنظيرا آخر لدي سوسير(04) ، ذلك أنه قد ركز في أعماله
اللسانية على ما ورد في محاضرات دي سوسير من مفاهيم وآراء لسانية، انطلق منها
هلمسيلف ليضع أبحاثه ويستخلص نظريته الجديدة التي اشتهرت بمصطلحاتها الجديدة
والغريبة، وأحيانا تميزت باستعمال مفردات عتيقة في حلة جديـــدة، وهذا ما
أكسبــــها شـــهرة واسـعة بين الدارســـين الأوربيــين و الأمريكيين على السواء.
و لقد حاولت النظرية
الغلوسيمية وصف الظواهر اللسـانية و تحليلها و تفسيــرها بطريقة علمــية و رياضية
منطقية، كما يقول هلمسيلف: « إنها تهدف إلى إرساء منهج إجرائي، يمكن من فهم كل
النصوص من خلال الوصف المنسجم و الشامل، إنما ليست نظرية بالمعنى العادي لنظام من
الفرضيات، بل نظام من المقدمات المنطقية الشكلية، و التعريفات، و النظريات المحكمة
التي تمكن من إحصاء كل إمكانيات التأليف بين عناصر النص الثابتة » (01)
و هذا يعني أن النظرية
الغلوميسية تهدف إلى وضع نظرية لسانية كلية من خلال اهتمامها بالمنطق الرياضي و
بالمنهجية العلمية، و من ثم فالموضوع الأساسي للدراسة اللسانية عنــد هلمسيـــلف –
هو دراسة بنية اللغة، وهذه الدراسة تكون باعتماد الشكلية، أي الطرق الرياضية
البحتة، لذلك يرى هلمسيلف أن « الألسنية الحقيقية تولي بنية اللغة جل اهتمامها و
تساهم عبر تركيزها على البنية في تكوين العلوم الإنسانية، فالنظرية اللغوية بنظره،
تتوسل تحليل البنية، بنية اللغة، عن طــريق اللــجوء إلى مبادئ شكلية» (02) .
و لقد عمق هلمسيلف المنهج البنيوي، عندما اعترف بأن نظريته لم تكن إلا
امتدادا لما جاء به دي سوسير من مفاهيم لسانية في كتابه الشهير "محاضرات في
علم اللغة العام"، و قام بفتح آفاق جديدة أمام الدراسات اللغوية المعاصرة، و
على هذا الأساس « يعتبر يلمسليف بمنهجه في مفترق الطرق بين المدرسة البنيوية و
المدرسة التوليدية في أوربا و أمريكا اليوم (…) و لذلك فإنه من المستحيل فهم
النظريات المعاصرة في دراسة اللغة و خاصة المدرسة التوليدية دون التعمق و فهم
نظرية يلمسلف » (03) . و من أهم
المبادئ التي انطلق منها هلمسليف في تحليلاته اللسانية ما يلي:
1- إعتماد مصطلحات خاصة وجديدة: تقوم
المدرسة الغلوسيمية على مجموعة من المصطلحات، نظرا لصياغتها لمفردات جديدة، و
إعادة استعمال بعض المفردات القديمة بحــــلة جديدة، بغيــة التــميـز و التجديد،
و سآخذ بعض هذه المصطلحات على سبيل المثال لا الحصر:
جلوسيماتيك Glossématique – و التي سبق و أشرت إليها – تدرس
الغلوسيمات glossémes أي الوحدات النحوية الصغرى التي لا تقبل التجزئة و تنقسم بدورها
إلى قسمين : وحدات التعبير و تدعى سوانم cénémes . و وحدات
المحتوى و تدعى مضامين plérémes .
فكلمة
cénéme مشتقة من الإغريقية KENOS بمعنى "فارغ"، و مصطلح Plereme من الإغريقية أيضا pléros بمعنى "مملوء". و استبدل هلمسيلف مصطلح phonématique بمصطلح cenematique ، أما مصطلح وظيفة fonction فأصبح يدل
على كل علاقة غير مادية مجردة و شكلية.
كما استعمل هلميساف مجموعة من المصطلحات
منـها : مســتوى التعبير (Escpression plane).و مستوى المضمون (content plane) ، و النظام (système)، و النص (tesct) ، و التحليل (analysis) ، و المتغير (variant)، و التحفيز(catalysis)، و النــمط (schema)، و
الموظف(Functive)
و استبدل هلمسيلف ـ أيضا ـ ثنائية اللغة و
الكلام لدي سوسير بثنائية أخرى أطلق عليها النمط (schema) و النص (tesct)، أو الاستعمال (usage) (02)
1-
تأسيس نظرية
لسانية وصفية علمية تقوم على مقدمات منطقية بديهية و على مبادئ معرفية منها:
و يرى أن الدراسة العلمية الموضوعية لابد
أن تقوم على احترام هذا المبدأ ذلك أن التراكيب المنطقية تقوم على قاعدة الجمع بين
هذه المعايير على المناهج الإجرائية التي توفر الوصف الشامل لأي نوع من النصوص،
دون أن يوجد تناقض بين الظواهر اللسانية، كما عليها أن تراعي أبسط وصف للوصول إلى
النتائج.
ب- مبدأ الإحكام و الملاءمة:
تتميز النظرية الغلوسيمية بخاصتين أساسيتين هما:
الإحكام الذي يعني الاعتباطية عند دي
سوسير، و الملاءمة.
و الإحكام عند هلمسيلف يعني الاتساق
التام « أي تكون النتائج الطبيعية لأي قضية تابعة لمقدماتها المنطقية » (01) ، فلابد أن تكون النظرية
اللسانية مبنية على أسس منطقية حتى يكون بالإمكان تطبيقها على نصوص لغوية.
أما الملاءمة فتتمثل في أن تلبي مقدمات
النظرية شروط التطبيق أي تكون ملائمة و قابلة للتطبيق على المعطيات التجريبية.
و
اعتمد هلمسيلف في منهجه لدراسة الظواهر اللسانية على الجمع بين التجريبية من جهة و
بين المنهج الإستنتاجي أو الاستنباطي الذي يراعي مبادئ التحليل الواقعي في دراسة
اللغة و يعتمد على مفاهيم المنطق و الرياضيات في استنباط الجزء من الكل، ممثلا و
ذلك بالمنطق الرمزي (Logistique) كاستعماله للرموز الجبرية و القوانين الرياضية، محاولا بذلك
دراسة الظواهر اللغوية دراسة علمية على
غرار العلوم الدقيقة، فحول اللغة العلمية إلى علم الجبر و من الرموز التي
استعملتها: LY°g°(V) R تدل على النص Tesct و LY°g°(V) التي
تعبر عن النظام Système.
و
كان هلمسيلف يهدف بوضعه لهذه الرموز – إلى وضع « لغة عليا (Méta – Langue) تكون وسيلة منطقية من أجل التحليل العلمي للنظام اللغوي، و البحث
الدقيق في علاقة وحداته، ووظائفها انطلاقا من الإيمان بهيمنة الدراسة الصورية للغة
و اعتبارها مبدأ منهجيا حاسما في اللسانيات البنيوية» (01). كما حاول أن بضع نظرية شكلية عامة
باستعمال العملية الترميزية ضمن ما يسمى بـ: (تنضيد اللغة Stratification du Langage ) (02) .
3- لقد اعتبر هلمسيلف كل من علمي الدلالة (Sémantique) و الصوتيات (Phonétique) علميين مساعدين لعلم اللغة العام (اللسانيات) و ليس فرعين أساسيين
منه، لأنه كان ينوي الوصول إلى نظرية صورية منطقية تتعارض مع النظرية الذهنية Mentalistic و النظرية السلوكية Behaviorisme. (01)
4- يركز هلمسيف في تحليلاته اللسانية على دراسة بنية اللغة، هذه
الدراسة التي تقوم – كما رأيت – على اعتماد الطرق الرياضية و المنطق الصوري، و
لذلك يحدد هلمسيف البنية « بأنها نسيج من التعلقات Dépendance أو
الوظائف (بالمفهوم المنطقي الرياضي للمصطلح)، و بناء على هذا التعريـــف يـــرى-
كغيره من الوظيفيين - أن المحاولة الرئيســــــة للسانيـــــات البنيويـــــة
ترتكز على دراســـــة الوظائـف و أنواعـــها» (02).
و هذا ما يبرر اهتمام هلمسيلف بالتحليل الوظيفي للوحدات اللسانية في ظل النظام
البنيوي القائم على مجموع العلاقات التي تربط الوحدات( أو العناصر اللسانية). أو
مجموع هذه البنيات هو الذي يكون النظام اللساني. واللغة- بهذا الاعتبار- شكل وليس
جوهر، وعلى ذلك فهمة عالم اللسانيات هي إنشاء نظرية ذات نسق صوري يمتاز بالطابع
الشكلي. و لذلك « يرى هلمسيلف أن اللسان ليس قائمة من المفردات، بل يكمن جوهره في
العلاقات النسقية الموجودة بين وحداته » (03) .
وعلى هذا الأساس عمل هلمسيلف على ضبط ثنائية
سوسير التي تفرق بين اللغة والكلام بما يكفي للإشارة إلى العلاقة الوظيفية التي
تربط بينهما، حيث قام بضبط تصوره عن اللغة- باعتبارها الموضوع الأساسي لعلم
اللسان- انطلاقا من تحديده لثلاثة مفاهيم فرعية وهي:
أ- الهيكل: وهو
يمثل اللغة كشكل صوري ونموذجي في نفس الوقت.
ب- القاعدة: وتمثل اللغة كشكل مادي يستعمله
المتكلم.
ج-الاستعمال: ويمثل
اللغة كمجموعة من العادات الخاصة بالمتكلمين(04)
ما أمكنني
ملاحظته من خلال تحليلي لهذه المعطيات الإجرائية الثلاث أن هلمسيلف قد حاول دراسة
النظام اللغوي السوسري وفي مقدمتها ثنائية اللغة والكلام دراسة شكلية، حيث لم تكن
هذه الدراسة في حقيقتها سوى امتداد لما جاء به دي سوسير من مفاهيم أساسية في
الدراسات اللغوية تهدف إلى دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها- أولا وقبل كل شيء-
ولذلك سعى صاحب هذه النظرية إلى توسيع مبدأ- اللغة شكل وليس مادة- فنظر إلى اللغة
على أنها "كيان صوري".
« وهذا الكيان يخضع لنسق من العلاقات الداخلية
يمكن دراستها بنوع من المعادلات الجبرية اللغوية... وهذا الشكل الصوري بعيد عن
المظهر الدلالي » (01)
، فقام هلمسيلف إذن، بضبط تصوره للغة انطلاقا من هذه المفاهيم الثلاثة التي تعني
على التوالي: الهيكل( أو المخطط Shéma) ويعني النظر إلى اللغة من حيث هي
صورة (أو شكل)، خالصة من مظهرها المادي و تحقيقاتها الاجتماعية، في حين يقصد
بالمبدأ الثاني، ألا وهو القاعدة (أو المعيار Norme ) تحديد اللغة
من حيث هي مظهر مادي في ظل تحقيقاتها الاجتماعية الخالصة، وأما الاستعمال Usage، فيقصد به النظر إلى اللغة من حيث تطبيقاتها الفعلية عند المتكلم
أي الانجاز الفعلي للغة في الواقع.
وللمزيد من التوضيح أستطيع الاستعانة
بالجدول التالي:
|
دي سوسير
|
هلمسيلف
|
|
1. اللغة
2. الكلام
3. اللغة في شكلها المادي
|
1.الهيكل/ المخطط (Shéma)
2. الاستعمال (Usage)
3.
القاعدة/المعيار (Norme)
|
5- يرى هلمسيلف « أن الوحدة
اللسانية سلبية بشكل خالص و علائقية، و أنها تتحدد بكونها لا تستمد قيمتها من
ذاتها (...) بل من العلاقات التي تربطها بالوحدات الأخرى » (02). و هذا يعني الكف عن دراسة
أجزاء اللغة، و الاهتمام بدراسة العلاقات القائمة بين تلك الأجزاء. و لذلك عمد
هلمسيلف- مثلا – إلى دراسة الأصوات اللغوية من حيث هي أشكال و صور و أهملها من حيث
هي مظاهر مادية خالصة.
6- يعتمد هلمسيلف أيضا على المنهجية التجريبية المبنية على الملاحظة
و الاختبار و يحدد ثلاثة شروط يجب أن تخضع لها الدراسة اللسانية و هي: اللاتناقض،
الشمول، و أقصى تبسيط ممكن. (03)
7- و قد سمى هلمسيلف تميز العلوم اللسانية عن الدراسات اللغوية و
تفصيل هذه الأخيرة، و دراسة اللغة كموضوع اللسانيات بمبدأ المحايثة (L'immanence) (04) و هو نفس المبدأ السوسري القائم على إعداد اللغة الموضوع الحقيقي و
الوحيد للسانيات، و التركيز - بالتالي – على دراسة اللغة في ذاتها و من أجل ذاتها.
8- و بتفريق هلمسيلف بين الشكل و المادة عمد إلى التفريق بين
المضمون و التعبير فاستبدل ثنائية الدال و المدلول بثنائية (مستوى التعبير و مستوى
المحتوى) و أكد أن اللغة تكون من تجمع هذين المستويين علاقة تدعى العلامة اللغوية Signe Linguistique
(01) .
ذلك أن العلامة
اللغوية علاقة تجمع بين الدال (مستوى التعبير) و المدلول ( مستوى المحتــــوى).
« و يتكون مستوى التعبير من الغطاء
الصوتي أو الخطي للفكرة، و يتكون مستوى المحتوى من عالم الفكرة التي يعبر عنها في
اللغة » (02) ، و من ثم
فمستوى التعبير هو عبارة عن مجموعة من الأصوات الخام، قد تكون مشتركة بين اللغات،
أما مستوى المحتوى فتمثله مجمل مواضيع الفكر الإنساني، و كل مستوى يخضع بدوره
لثنائية الشكل و المادة، فينتج عن ذلك المستويات التالية:
أ-
شكل المحتوى
أو المضمون: و هو تقريبا
ما أشار إليه دي سوسير بلفظ المدلول الذي اكتسى قالبا محددا، و يقصد به أيضا
البنية المعجمية و التركيبية.
ب- مادة المحتوى أو المضمون: و
تمثلها الأفكار، أي الواقع الخارجي كما هو قبل أن تتناوله اللغة بالبناء و
التنظيم.
جـ - شكل
التعبير: و يقصد به الدال. و تهتم بدراسته الفونولوجية (أو علم وظائف
الأصوات اللغوية).
د- مادة
التعبير: و يقصد بها مجموعة الأصوات المنطوقة في شكلها المادي (مادة
الأصوات) قبل أن تصوغها اللغة. و تهتم بدراستها الفونتيك. (03).
و
يمكن ملاحظة أن كل ما هو موجود في مادة التعبير و مادة المحتوى من مادة صوتية في
الأولى و أفكار في الثانية يمكن أن تكون مشتركة بين سلسلة من اللغات، غير أن شكل
التعبير و شكل المحتوى يختلفان من لغة إلى أخرى، على أن يمثل الأول الطرق التي
تتوافق فيها الأصوات، ويمثل الثاني طرق ترتيب الأفكار الخاصة بكل لغة.
و يشير هلمسيلف إلى وجود صلة بين شكل التعبير
و شكل المحتوى تتمثل في مبدأ الاستبدال، فعملية الاستبدال بين النون و القاف في
قال- نال، ينجم عنها تمييز في مستوى التعبير و هدف هلمسيلف من هذا التقسيم هو
التركيز على دراسة الجانب الصوري الشكلي للظواهر اللسانية، كما يوضح الشكل التالي:
يتضح من خلال
هذا الشكل أن مادة التعبير و شكله هي موضوع دراسة الصوتيات، و مـــادة المحتـــوى
و شكله هي موضوع دراسة علم الدلالة، و قد اعتبر هلمسيلف – كما رأيت – أن
علمــــــي الصوتيـــات و الدلالة علمين مساعدين و ليسا من اللسانيات.
9- و من الجدير بالذكر، أن النظرية المقصودة في المنهج الغلوسيماتي،
هي النظرية المنطقية التي تقوم على التحليل المنطقي، و بعبارة أخرى فالمنهج
الغلوسيماتي « يهدف إلى أن يكون موضوع اللسانيات علما بحتا وفق تصورات حلقة
فيَّنا: أي الفلسفة الوضعية المنطقية التي
طورها أوغست كونت، و التي لا تدرس إلا الظواهر اليقينية مبتعدة عن كل تفكير
تجريدي في الأسباب المطلقة » (02)
فالمنهج
الغلوسيماتي هو ذلك المنهج القائم على بناء نماذج رياضية منطقية، تكون بمثابة
نظريات كلية تشرح وقائع اللغات، و هو أيضا المنهج الذي وحد بين مبادئ النحو
التقليدية و مظاهر النظرية اللسانية الحديثة، و بين مسلمات المنطق الصوري و الأسس
المعرفية العامة.

غير أن هذا المنهج « كان يمثــــــل – في اللسانيات البنيوية بشكل عام و في الجلوسيمية بشكل خاص – توجها ابستمولوجيا جديدا، بإدخاله اللسانيات البنيوية مرحلة جديدة هي أشبه ما تكـــون بإعـــــادة البنـــاء و التأسيس، و جديدا بإحيائه لبعض المفاهيم القديمة في المنطق و الفلسفــة، و جديدا بتميز تصوراته عن التصورات اللسانية السائدة بما فيها تصورات البنيوييــن أنفسهــم...» (01).
و هذا يدل على أن هلمسيلف قد عمل على
تعميق أفكار دي سوسير في إطار الــــــــبحث الجـــاد و الدراسات المعمقة، التي
اعتمد فيها على خطوات المنهج التجريبي - شأنه في ذلك شأن العديد من البنيويين –
القائم على مبدأ الاستقلال (Autonomy) الذي يتمتع به علم اللغة عن بقية المناهج العلمية الأخرى، و على
خطوات هذا المنهج من ملاحظة و تجريب و استنتاج وفق مفاهيم المنطق و الرياضيات. و
بذلك فقد حدد هلمسيلف شروط الدراسة البنيوية اللسانية في ثلاثة مبادئ هي:
اللاتناقض، و الشمــــول، و أقصى تبسيط ممكن. و هذا ما دفع بالعديد من الباحثين
إلى القول بأن « المعايير التجريبية – أو العقلية من باب أولى ليالمسلف كانت جديدة تماما بالنسبة للفلسفة و
بالنسبة للمناهج اللسانية، حتى أن مصطلح "التجريبية" يبدوا غريبا من حيث
تطبيقه على مثل هذه المبادئ » (02).
و لعل السبب في هـــــذا القـــول أو الاعتراف، يعود نتيجة لتطبيق هلمسيلف لهذه
المعايير الثلاثة في الدراسات اللسانية و اعتبارها قاعدة عامة تقوم عليها المنهجية
التجريبية بدلا من الانطلاق من القاعدة التجريبية التي تمثلها المواد اللسانية
(كما هو الشأن في المنهج التجريبي الاستقرائي).
10- الرؤية الشكلية السيميائية: اعتبر هلمسيلف في
رؤيته الشكلية للدراسات اللغوية أن الأصوات اللغوية عبارة عن علامات تواصلية، و
بذلك فلا يهم أن يكون مقابل المعنى صوتا أو كتابة أو أي نظام آخر ما دام المعنى
عبارة عن وحدة تحمل وظيفة سيميائية. و بالتالي فهو يحاول إخضاع النظام اللغوي
لمبادئ علم العلامات. فمن مميزات النظرية الجلوسيمية كما يرى هلمسيلف « اعتبار
اللسان حالة خاصة في نظام سيميائي (...) و السعي لوضع اللسانيــــات ضمن أطر
لسيميائيـــات عامة Générale Sémiologie » (03)
و هو بذلك
يتفق مع دي سوسير في اعتبار اللسانيات فرع من السيمائيات أو علم العلامات و يرى
هلمسيلف أن الوظيفة التي تكون العلامة (أي تلك التي تجمع بين الدال و المدلول)،
كما فرق في اللغة بين جانبها اللساني – و هو أحد مظاهر اللغة – وجانبها السيميائي،
من حيث أن اللغة حقائق صورية تشمل أي نظام للعلامات، و بذلك فاللسانيات البنيوية –
حسب رأيه - لا يمكنها الاستغناء عن اللغات
غير اللسانية. لأنه بدراسته هذه الأخيرة و مقارنتها باللغات اللسانية تكتشف تميز
اللغة الإنسانية عن غيرها. و الحقيقة أن هلمسيلف لا يعد النظام اللغوي نظاما
للعلامات، بل هو نظام لصور تملك وظيفة إبداعية لتشكيل علامات جديدة.
4-3- الخلاصة: لقد حاول هلمسيلف توسيع المفاهيم
السوسرية، و ذلك في معالجة الظواهر اللسانية معالجة دقيقة على منوال العلوم
الطبيعية و الرياضية، أي بالاعتماد على النماذج الرياضية و المنطقيـــة، و كذلك
على المنهج التجريبي في دراسة جزيئات اللغة. فتعتبر هذه الدراسة - بذلك – أول
تعميق منهجي و علمي لآراء دي سوسير اللسانية، و أول عصرنة للدراسات اللغوية
باستخدام المناهج العلمية الرياضية، و لعل نتيجة لذلك كانت اللسانيات الرياضية.
و تعتبر النظرية الغلوسيمية من أبرز الأعمال اللسانية التي قدمت خلال القرن
العشرين، ذلك أنها قدمت تحديدا دقيقا للغة، واعتبرتها ميدانا علميا رياضيا بحتا
يقوم على المناهج العلمية المطبقة في العلوم الطبيعية و الرياضية، يقول هلمسيلف: «
إن المقصود باللغويات البنيوية هو مجموع الأبحاث التي تستند إلى فرض واحد مؤداه
أنه من المشروع علميا وصف اللغة باعتبارها أولا و بالذات كيانا مستقلا
من العلاقات الباطينية التي يتوقف بعضها على البعض الآخر، أعني – بكلمة واحدة
– "بنية" ...» (01) فهلمسيلف يعتبر البنية كيان صوري يمثل منظومة
من العلاقات الباطنية.
و رغم الأهمية العلمية لهذه النظرية إلا
أنه يؤخذ عليها أنها أوغلت في التجريد و التصنيف دون أن تقدم علميا ما يعطيها
أهمية في ميدان التطبيق، كما أنها أقصت المادة الصوتية التي لا يتم التحليل إلاّ
بها، و عجزت عن دراسة اللغات غير المعروفة أو التي لم تعرف، « و المتأمل في بنيوية
هلمسيلف اللغوية، يلاحظ ـ أولا و قبل كل شيء ـ أنها عبارة عن عملية بناء ـ أو
إنشاء ـ "نموذجي منطقي" في اللغة من جهة، و لجهاز بأكمله من
التعريفات من جهة أخرى، أكثر مما هي نظرية علمية أريد لها أن تكون أداة لاكتشاف
معالم "العالم اللغوي" » (02)
.
و رغم هذا، وذاك يبقى القول أن مفاهيم
هلمسيلف قد أسست لمنهج علمي جديد في دراسة الظواهر اللغوية، و أحدثت بذلك ثورة على
طرق معالجة النظام اللغوي السابقة لها. ذلك أن المعرفة الدقيقة للمبادئ و النظريات
اللسانية البنيوية لم يكن ليصل إلى كنهها اللسانيون المعاصرون من دون قراءة فعالة
لأعمال اللساني الأول " هلمسيلف".
)- البنيوية والنموذج اللساني : (
سجن اللغة / النسق )
لقد صار من
البديهي القول أن البنيوية قد تكونت في مجال اللسانيات أو علم اللغة الحديث ثم
امتدت إلى مجالات معرفة متعددة منها : علم الاجتماع ، الأنتربولوجيا ، النقد
الأدبي ... أي ما يسمى عادة بالعلوم الاجتماعية ومرة بالعلوم الإنسانية . وكان أهم
مجال في ذلك هو النقد الأدبي ، حيث دخلت البنيوية الدراسات الأدبية النقدية في أواسط القرن العشرين قادمة –
كما ذكرت – من اللسانيات و الأنتربولوجيا لتلتبس بأحد طرق التفكير النقدية السائدة
مثل : الشكلية ، والواقعية ، والماركسية ... لشكل في الأخير مايعرف بالبنيوية
الشكلية ،أو البنيوية الماركسية ، أو البنيوية النفسية ... التي تدخل كلها ضمن
إطار النقد البنيوي ، ذلك « أن الحديث عن
النقد البنيوي هو وقوف عند أول معلم من معالم الحداثة النقدية ،هو حديث عن نظرة
نقدية مكتملة الآليات اتخذت من اللغة أساسا لها في البروز على الساحة النقدية ،
ليس اللغة كأداة للتواصل والتعبير بل هي هنا غاية في حد ذاتها لا تحيلك إلا على
معجمها الداخلي كنظام من العلامات تنتج الدلالة من خلال العلاقات القائمة فيما
بينها » (02).
ومما لا شك فيه أن النقاد الفينون و الأدبيون كانوا
يفسرون عمل الكاتب من خلال تاريخ حياته ويبنون نظرتهم إلى الفنان على وقائع نفسه
أو اجتماعية أو سياسية لها كلها موقع محدد
في التاريخ ، « فقد كان النقد قبل مجئي البنيوية عملا يهتم بالظروف الخارجية
فيتناول الواقع النفسي أو الوجداني الذي
يعبر عنه الأديب أو يتناول العصر أو المجتمع اللذين وجد فيهما الناص .
وهذا ماجعل
الدراسات النقدية تبدو بعيدة عن الفهم الحقيقي للعملية الإبداعية ، إذ من المفروض
أن يهتم النقد بالنص ،لأنه الذي يسوغ أي اهتمام نبديه بصاحب النص ، أو بعصره ،
فالنص ذاته يكشف عن صاحب لا العكس » (01).
ظهرت
البنيوية إذن كمنهج للبحث والاستكشاف بتأثير من العلامة دي سويسر في بداية القرن
العشرين وإن لم يعتبر في كتابه على كلمة
" بنية " إلا أنه استطاع أن يغير نمط الدراسات اللغوية عما كانت عليه من
قبل فقال بان اللغة يجب أن تدرس كعلم
مستقل بذاته ولخدمة ذاته ، لا أن تدرس لذات علم آخر ، ولكي يتحقق ذلك كان لزاما دراسة
علاقاتها الداخلية دراسة عميقة تشكل في مجموعها الدلالات الكلية المحققة لقيمها
الكلية أو المقصودة . ولذلك فقد انطلق سوسير في دراسة اللغة من مجموعة من
الثنائيات أسس بها صرح المنهج البنيوي ،
ومنها : ثنائية اللغة / الكلام ، والدال / المدلول ، والتزامن / التعاقب .
فالبنيوية مد مباشرة من اللسانيات ، ويقف دي سوسير على صدارة هذا التوجه
النقدي ، عندما حولت أفكاره الدراسات اللغوية نحو نفطة لاعودة منها لسابق عهدها ،
وكانت أفكاره نفسها صاحبه الدور الأكثر فعالية في بلورة البنيوية و اتجاهاتها ،
وخاصة منذ أن أخذ بتعريف اللغة على أنها نظام من الإشارات ، وهذه الإشارات هي
أصوات تصدر من الإنسان ، ولا تكون ذات قيمة إلا إذا كان صدورها للتعبير عن فكرة أو
لتوصيلها ، « وهو بهذا يكون قد مهد لمبدأ تعدد الدلالات ولانهائية التفسير الذي
قال به التفكيكون : إذ المدلول كصورة ذهنية لا يمكن تحقيقه في الواقع لأنه متصور
غائب عن لحظة الكلام ، وغيابه دليل على حضوره ،ويبقى دائما وأبدا مؤجل الحضور »(02).
ولقد
حاول بعض النقاد استخدام المنهج البنيوي على النصوص الأدبية بغية الاقتراب من مبدأ
العلمية والموضوعية على عكس المناهج النقدية السابقة له ، والتي يغلب عليها طابع
الأحكام الذاتية والانطباعية ... وهذا مالاحظته مع الشكلية الروسية التي حاولت
إرساء دعائم الدراسة الادبية على قاعدة مستقلة ، فبدلت مركز الاهتمام من الشخص إلى
النص. وكان أهم سؤال بالنسبة لها ليس كيفية دراسة الأدب وإنما الماهية الفعلية
لموضوع بحث الدراسة الأدبية .
« فالنقد
الشكلاني نقد لغوي محض يستهدف الاحاطة بمستويات النص النحوية والصرفية والصوتية
والمعجمية ، كما اشتهر هذا المنهج بإقصائه المنهجي للرؤية النفسية والتاريخية ، والاجتماعية ،إقصاء مطلقا ،على
اعتبار أن هذه الرؤى من اختصاص علوم إنسانية أخرى . وقد تسبب ذلك في عداء شديد
بين البنيويين الشكلانيين ، وبين أصحاب
المناهج النقدية السالفة الذكر » (01).
فالمنهج البنيوي عكس المناهج الخارجية الأخرى ، كالمنهج التاريخي والنفسي
... التي تدرس الظاهرة الأدبية من خارجها ،وتفسر العمل الأدبي إما برده إلى الشروط
التاريخية أو إلى العوامل الباطنية للمؤلف ،وذلك أن السياف الفكري الذي ترعرت فيه
هذه المناهج سادت فيه النزعة التاريخية ، حيث كانت تفسر كل الظواهر من خلال
التاريخ ، فالسابق دائما يتحكم في اللاحق ، وظل الأمر على حاله ،إلى أن ظهر النقد
الشكلاني الذي يشبه كثيرا النقد البنيوي في مبدأ الاستعانة بنتائج العلم التجريبي
في دراسة النصوص الأدبية ، فهاهو رومان جاكبسون يطلق عام 1919 قولته التي
أصبحت فيما بعد كيبان يختزل عمل الشكلايين والشعريين والبنيويين ، حيث قال : « ليس
موضوع علم الأدب هو الادب وإنما الأدبية
،أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا »(02).
وإنه
من أهم إنجازات المدرسة الشكلية هو مفهوم الأدبية أو الشعرية « الذي نعني به
الوظيفية الخالصة للأدب ، والتي تميز النص الأدبي عن غيره من النصوص ، أي ما يجعل
من نص مانصا أدبيا » (03).
أو التي تدل حسب التوجه السائد « على مجموعة المبادئ
الجمالية التي تقود الكاتب في عمله الأدبي »(04).
ولذلك فقد أضفى مفهوم الأدبية أو الشعرية على النظرية
الشكلانية طابع العلمية والنسقية ، والاهتمام بالخصائص الشكلية للأدب ، وأسهم في
إيجاد أجوبة حول القضايا التي تخص الأدب من الخارج . يقول الدكتور عبد العزيز
حمودة : « إن البنيوية الأدبية في جوهرها ، تركز على " أدبية الأدب Literariness " وليس
على وظيفة الأدب أو معنى النص .أي أن
الناقد البنيوي يهتم في المقام الأول بتحديد الخصائص التي تجعل الأدب أدبا ، التي
تجعل القصة أو الرواية أو القصيدة نصا أدبيا . ولكي يحقق ذلك عليه أن يدرس علاقات
الوحدات والبنى الصغيرة بعضها ببعض داخل النص في محاولة للوصول إلى تحديد النظام
أو البناء الكلي الذي يجعل النص موضوع الدراسة أدبا .
وهو نظام
يفترض الناقد البنيوي مقدما أنه موجود ، وبعد ذلك يحاول تطبيق خصائص النظام الكلي
العام على النصوص الفردية معطيا لنفسه حق التعامل بحرية مع بنى النص الصغرى
ووحداته » (01).
ومن المفترض أن ثمة نقاط تماثل وتقارب عديدة بين
المدرستين الشكلية والبنيوية ، ولعل أبرزها : التماثل في مفهوم " الشكل –
البنية" و " النظام – النسق " كما استعمله دي سوسير ، وكذلك
الاشتراك في المصدر اللساني ، باعتبار أن الشكلانيين قد وجهوا أبحاثهم نحو
اللسانيات التي كانت تلائم نظرية الشعر في الدراسة إضافة إلى فرضهم موقف علمي
موضوعي من خلال « رفض المبادئ الجمالية
الذاتية التي روج لها كتاب النظرية الرنرية ، والتحرر – بالتالي – من
المقولات الفلسفية والتأويلات النفسية والإيديولوجية »(02).
ولكن أهم نقد قد يوجه إلى المدرسة الشكلية – والذي
يعد في حدذاته نقطة اختلاف هامة بينها وبين المدرسة البنيوية – فيتمثل في تركيزها
على جانب الشكل دون الاهتمام بالغاية من العمل الأدبي وبمحتوى الأدب وهذاما
عبر عنه " شلوفكسي " – أحد مؤسسي هذا الاتجاه – في صورة نقد ذاتي
قائلا : « لقد شغلت في دراساتي النظرية بالقوانين الداخلية للأدب ، وإذا كان لي أن
أستخدم عبارة مأخوذة من المجال الصناعي فإنني كنت مثل من لا يشتغل بوضع القطن
ومنتجاته في الأسواق العالمية والسياسة الاحتكارية المتبعة فيه وإنما يركز اهتمامه على مشاكل الغزل والنسيج من
الوجهة الفنية » (03).
يدل هذا
الاعتراف من أحد أقطاب الشكلية أنفسهم ، على أن ثمة نوع من القصور المنهجي في هذه
المدرسة ، نظرا لتركيزها على الجانب الشكلي دون غيره من الجوانب الفنية الأخرى مثل
المضمــــــــــون أو المعنى ، ذلك أن الدراسة النقدية الجادة هي تلك الدراسة
المترابطة والمتكاملة الأبعاد والوجهات الفنية . لذلك فإن البنيوية باقترابها من
مجال النقد الأدبي ، إنما تسعى « التخفيف من سطوة علم النفس وعلم الاجتماع وعلم
التاريخ على مجال النقد ، في محاولة لتحقيق التوازن ، وهو أن تطبق منهجا علميا على
مجال غير علمي ( العلوم الإنسانية ) حتى تتخلص من المفاهيم النقدية القيمية التي
أرهقت كاهل النقد وجعلته مجرد مخبر لتجارب
هذه العلوم » (04) .
وكما هو معلوم فإن المنهج البنيوي
ظهر كتيار فكري في نهاية الخمسينيات ليتجاوز النزعة التاريخية والفلسفات التي
تعتمد الذات كخلفية مثل الوجودية أو الظاهراتية ، مستعينا في ذلك بنتائج العلم
التجريبي .
فقد اعتمد خلفية عملية وفلسفية أكسبته نسقية منهجية
وشمولية ميدانية .
يقول الدكتور
عبد العزيز حمودة : « ... فالجذور الخفية للبنيوية تؤكد أنها لم تنشأ من فراغ
وأنها امتداد للشكلية الروسية بقدر ماهي ثورة عليها وتطوير للنقد الجديدة بقدر
ماهي رفض له ، وفوق هذا وذاك فإنها النتيجة المنطقية لإنجازات العقل والتفكير
العلمي والفلسفي من ناحية وللتطورات التي حدثت في مجال الدراسات اللغوية من ناحية
أخرى » (01). وكما ذكرت سالفا ، فالبنيوية قد ثارت على
الفلسفات السابقة لها ، ولا سيما الفلسفات الوجودية الظاهراتية
والماركسية ، التي سادت فرنسا في فترة ما قبل البنيوية متخذة من الآثار
السيئة للحرب العالمية الثانية وكذلك الممارسات الديكتاتورية والغير ديمقراطية
التي سادت العالم الغربي خلال هذه الفترة
ذريعة هامة وحاسمة للدخول ساحة المعارك الأدبية والعلمية .فبعد أن فقد
الإنسان الغربي ثقته في هذه الفلسفات كانت الساحة شبه فارغة لمجئي النقد البنيوي
وحمله راية الدفاع عن الإنسان المهزوم ، « لكن عبثا يحاول فالإنسان الغربي وإن
أبدى ترحيبا بالبنيوية بديلا عن الوجودية
، إلا أنه يعلم أنها ثمرة من ثمار العلم الذي زرع الخوف وجلب اليأس له في الحرب
الكونية الثانية وليس أدل على ذلك من
القنبلة الذرية في اليابان ، فقط هو يريد أن يجد بديلا يقاوم به فشله في تحقيق
السعادة ولو إلى حين ، وهذاما يفسر المدة القصيرة التي بقيت فيما البنيوية » (02).
فقد
شاعت في منتصف الستينات ومابعدها بضعة شكوك في الكفاية المنهجية للبنوية بشتى
حقولها الأنتربولوجية ، والنفسية ، والأدبية ، والمعرفية ، تقول جوناتان كلر
: « إن اعتماد البنيوية على النموذج اللغوي في الدراسات الأدبية جعلها تنطلق من
نظرة سابقة أصلا للعلمية الإبداعية » (03)
.هذا يعني أنه وبما أن البنيوية ظلت أسيرة النموذج اللغوي فقد وقعت في مأزق
الوصفية والمعيارية الجامدة وأصبحت نتائج التحليل فيها تتطابق مهما اختلفت حقولها
... ولكن سرعان ماتحولت هذه الشكوك في نزاهة البنيوية إلى تيار نقدي يحاول نقد
الوصفية البنيوية المجردة ونموذجها اللغوي الذي عممته على العلوم الإنسانية ، وقد
تم هذا الخروج من أقطاب البنيوية أنفسهم : بارث ، تودوروف ،ألتوسير ، فوكو ، دريدا
... وبدأت أولى هذه الارتدادات حين ألقى دريدا سنة 1966 في جاعمة "
هوبكنز" بالولايات المتحدة الأمريكية محاضرة حول التفكيك ، ثم جاءت ثورة
الطلبة الفرنسيين سنة 1968 تأكيدا لأفول شمس البنيوية وكل ماتمت به من صلة إلى
الموضوعية (04). ولعل
الانتقال من البنيوية إلى السيميائية لأبرز دليل على انهيار الوصفية الموضوعية
التي أرستها البنيوية .
وكما هو معلوم ، فإن البنيوية قد اعتمدت مبدأ النموذج
اللغوي وطورته ليصبح أساس المقاربة النقديـــــــــــة ( البنيوية ) للنصوص
الأدبية ، متخذة من الرياضيات المثال المحتذى ، ذلك أن الرياضيات لا تحتاج إلى
تحقيق خارجي للتدليل على صحة قضاياها . ويوضح الدكتور شكري عياد لعلاقة الوطيدة
بين البنيوية والنقد الأدبي قائلا : «... إن الحديث عن البنية أو البناء قدد صاحب كل حركة نقدية
عنيت بالتحليل الفني للنصوص الأدبية ، مخالفة للاتجاه الذي ظل سائدا حتى أوائل هذا
القرن وهو الاتجاه السائد في جامعاتنا نحو نحو التفسير التاريخي (...) والشبه واضح
على الخصوص – بين النقد الجديد الذي سيطر على الدراسات الأدبية في أمريكا في
الأربعينات والخمسنيات والنقد البنيوي الذي انطلق في فرنسا في الستينات .بل إن
النقد البنيوي سمي أيضا بالنقد الحديد . كما أن اصطلاح البنية ظل شائعا بين النقاد
الجدد في أمريكا ، ولا يكاد القارئ شعر بغارق بين دلالة البنية عند هؤلاء وهؤلاء
سوى تاكيد البنيويين جانب الاصطلاح في الأدب من حيث هو مؤسسة ذات موضعات فنية ،على
حين يؤكد النقاد الجدد ، مخلصين لتراثهم الانجلوسكسوني الذي يهتم بالواقع المحسوس
المجرب ، جانب النص الأدبي كعمل له تفرده و ذاتيته قبل أن يصبح في الإمكان النظر
إلى السمات المشتركة بين مجموعة من الأعمال الأدبية أو بين الأعمال الأدبية كلها ،
و لكـــن هؤلاء و هؤلاء يتمسكون باستقلالية الأدب كمؤسسة أو كأعمال متميزة عما
يسمى بالواقع الخارجي أو الحقائق الفكرية »(01).وفي
هذا التصريح ما يؤكد مقولة الدكتور عبد
العزيز حمودة ، من أنه يستحيل أن يوجد في تاريخ النقد الأدبي مدرسة جديدة بالكامل(02) ، فلو تتبعنا التحولات المعرفية الكبرى في الثقافة الغربيــــــة - و لا سيما القرون الثلاثة
الأخيرة – لوجدنا أنها قد مرت
بأطوار زمنية و فكرية متعددة ، تقوم على نوع من الإستمرارية و التواصل
الفكري النقدي ، فكل مشروع جديد كان يلفظ المشروع البديل ( أو السابق له ) و يخرجه من عبادتها ، و
بالتالي فإن مقولة الحداثيين الغرب بأنهم
إبتعدوا مدرسته فكرية نقدية جديدة إسمها
البنيوية ، ليس له أي أساس من الصحة .
لكن ما
تؤاخذ عليه البنيوية الأدبية حقيقة هو إهتمامها
بالجوانب الداخلية للنص الأدبي بعيدا عن كل ما يمت بصلة للنص من الخارج ،« تكون قد أعادت فكرة " سجن النسق "
من جديد : إذا جعلت اللغة غاية في حد ذاتها ، بل إن الإنسان يولد فيها ، فهي بيت
الوجود كما يقول هيدغر، و ما الإنسان كاتبا أو حتى قارئا لا يملك إلا أن يستجيب لأنساقها الداخلية
الثابتة ، فليس له الحق أن يأتي بشيئ من عند ياته ، ليجد نفسه في سجن اللغة بعدما
فر من سجن القوى الإقتصاديـــة الماركسية »
(03)
فالبنيوية ما هي إلا تعبير عن تناقض في الحضارة التي انتجتها ، فبالرغم من أن البنيوية قد ثارت – كما ذكرت – على تلك المطلقات الماورائية و الماهيات المتعالية و الكليات المجردة كالواحد و الذات و الحقيقــة و الوجود و العقل ، إلى أن المحجوب في هذا العمل هو أن البنيوية لم تنشأ إلا في أحضان الفلسفة العقلية المثالية ، فلسفة الذات العارفة ( الكوجيتو) عند ديكارت ، و المتعالية عند كانط و التي إدعت الثورة عليها .
فالبنيوية ما هي إلا تعبير عن تناقض في الحضارة التي انتجتها ، فبالرغم من أن البنيوية قد ثارت – كما ذكرت – على تلك المطلقات الماورائية و الماهيات المتعالية و الكليات المجردة كالواحد و الذات و الحقيقــة و الوجود و العقل ، إلى أن المحجوب في هذا العمل هو أن البنيوية لم تنشأ إلا في أحضان الفلسفة العقلية المثالية ، فلسفة الذات العارفة ( الكوجيتو) عند ديكارت ، و المتعالية عند كانط و التي إدعت الثورة عليها .
صحيح أن الفيلسوف الفرنسي بول ريكور قد صرح
يوما بأن البنيوية كانطية دون ذات متعالية
، غير أن المحجوب في هذا التصريح ، هو أن البنيوية النقدية قد قامت سجن الذات في النسق أو النظام و الذي
يتمثل عندها في اللغة ، في حين كان يتمثل في الفلسفة المثالية في سجن العقل /
المثال .
و لقد أصبح النقد البنيوي في الواقع عبارة عن نوع من
الممارسة النقدية للنص باعتباره يشكل منطقة من مناطق عمل الفكر ، فلم يعد النص
مرآة للواقع ، و لا ترجمة ذاتية لسيرة صاحبه ، أو حالة المجتمع . و إنما أصبح التركيز
في النقد منصبا على مشروعية و كينونة النص ذاته
.
يقول الدكتور علي حرب موضحا هذه الحقيقة : «
ففي منطق النقد يستقل النص عن المؤلف كما يستقل عن المرجع لكي يغدو واقعة خطابية
لها حقيقتها و قسطها من الوجود . طبعا ليس
كل خطاب يشكل نصا . فالنص هو خطاب تم الإعتراف به و تكريسه. إنه كلام أثبت جدارته
وأكتسب فرادته و أصبح أثرا يرجع إليه .
إذن فالنص ، لا الواقع ، هو الذي يعدو المرجع ، بمعنى أنه يفرض نفسه علينا و
يدعونا إلى الرجوع إليه و قراءته بإستمرار (...) فنقد النص ينكشف عن نقد للحقيقة
وإستكشاف للكائن . إنه فتح علاقة مع الحقيقة
من شأنها أن تغير مفهومنا لها و أن
تبدل طريقة تعاملنا معها . ففي منظور النقد ليست الحقيقة جوهرا يتعالى على شروطه
أو يوجد بمزل عن الخطاب ، و إنما هي ما
يخلقه النص نفسه . بكلام آخر : النص من هذه الوجهة لا يبحث عن الحقيقة بقدر ما
يفرض حقيقته » (01).
قد يعني هذا التصريح أن النص لم يعد أداة للمعرفة ،
بل أصبح هو نفسه ميدانا معرفيا مستقلا ،لذلك أصبح الاهتمام موجها نحو اللغة ،لغة
النص ، لذلك فقد عملت البنيوية على إبعاد كل العوامل الخارجية التي تؤثر على
الدلالة في النص ، وبات مركز الاهتمام منصبا على النص ( اللغة ) وحده ، باعتباره
مجالا الإنتاج معرفة تجعلنا نعيد النظر في ما كنا نعرفه عن النص والمعرفة في أن...
مثل ماقامت به الفلسفة العقلية / المثالية من فصل بين الذات والبدن بدعوى أن البدن
يمثل الخارج الذي يعرقل عملية الوصول إلى الحقيقة ،والذات تعبر عن الداخل ،لذا
فشبقى قابعة فيه لبلوغ الحقيقة أو اليقين المنشود .
من هنا فإنه يمكنني القول " سجن اللغة" ،
نعم ، فقد زجت البنيوية الإنسان الغربي مرة أخرى وفي سجن من نوع آخر ،إنه "
سجن اللغة" ،وهذا مايفسر –حسب ظني – تفشي الجانب " غير الإنساني "
في الأسس الفلسفية للمنهج البنيوي – باعتباره أحد أهم المناهج الحداثية الغربية –
الذي ألغى مفهوم " الإبداع " من قاموسه الدلالي ،بعدما كان هذا المفهوم
مسيطرا على الفكر الرومانسي الغربي لفترة غير وجيزة . يقول الدكتور سعد
البازعني موضحا ذلك : « فالبنيوية
مثل النقد الأسطوري .غير معنية بالجانب الإبداعي في النصوص الأدبية ،وانشغالها
الأساسي ينصب على الأدب بوصفه نظاما شاملا من أنظمة الثقافة التي يموت فيها المؤلف
أو الإنسان المبدع ، وما على الباحث إلا اكتشاف القوانيين والعلاقات التي تربطة
ببعضه البعض تمهيدا لاستكناه ما تنطوي عليه من دلالات » (01). وفي هذا العمل مايفسر
بعض التناقصات في الاستقبال العربي للنقد الغربي – ولاسيما البنيوي – لما فيه من
نزعة غير إنسانوية ، في حيث مازال نقدنا العربي ذو مزعة إنسانية تتمركز أبحاثها
حول الإنسان فالإنسان هو ضحية المشروع البنيوي ، مثلما كان الضحية الأول والأخير
لمختلف مشاريع الفلسفة الحداثية الغربية
التي جذرت فكرة موت الإنسان وأقرتها مبدأ ساريا في كل المشاريع الفكرية
والنقدية . وهذا ما سأتعرف عليه أكثر في المبحث الموالي .
5- البنيوية وفلسفة موت الإنسان :
يمتاز القرن العشرون بالتطور العظيم
الذي شمل مجالات الحياة كلها ،من سياسة وفلسفة وعلوم إنسانية وفنون ... تطورت كلها
نتيجة لتطور العلم في هذا القرن ،فقد تقدم العلم في الكشف عن أسرار الموجودات
تقدما مازال يستمر في ميادين المعرفة كلها ،ذلك أن الإنسان اتخذ من الخبرات
التجريبية التي اعتمدتها التقنية في نشأته موضوعا للتفكير وراح ينظم نتائجها
الثابتة ويصوغها في قوانين ، فنشأ العلم الذي تغلغل في جميع ميادين الحياة
الإنسانية ، حتى السياسة صارت تستند إلى نظريات تتفاوق في قيمتها ونظهر آثار السهر
على تطبيقها في توجيه مجرى التاريخ ورسم خريطة العالم واهتمامات الإنسان وتطلعاته
في البلدان المختلفة . وأخضعت الأخلاق كما أخضع الدين لدراسات وتساؤلات أضعفت تمسك
الجماهيربهما ودفعتهما إلى استبدال الإباحية و الإلحاد بهما . وعرفت العلوم
الإنسانية ازدهارا يبدو فيما حققة الأدب وفيما اكتشفه علم النفس وعلم الاجتماع وعلم
الاقتصاد وغيرهما من قوانين زادت معرفة بطبيعة الإنسان ومجتمعاته .ونالت الفلسفة
خطوة ورواجا لم تعرفهما من قبل فكثرت
نظرياتها وتعددت مذاهبها وتنوعت حلولها للمشاكل التي مازال الإنسان يطرحها على
نفسه ويحاول جهده أن يأتي فيها بالأصيل الذي يمانحه الطمأنينة واليقين (02).
أمام كل هذه المنجزات والتطورات التي شهدها القرن
العشرين ، ظهرت البنيوية ، باعتبارها أهم المنهجيات الأساسية التي نهضت على الجهود
اللغوية الحداثية ، والتي جعلت من النموذج اللساني نموذجا للعملية والموضوعية ، في
عصر اتسم باشكال من التعصب سريعة لتغير ، تؤدي فيه بمذهب فكري تلو مذهب ، باعتباره
الحل الذي يخرجنا من حيرتنا ... لقد مثلت البنيوية في وقت من الأوقات مرحلة ضرورية
هامة من مراحل سير العلوم الإنسانية ،على الرغم من أنها ألغت الإنسان أو الذات
الإنسانية من مشروع عملها . يقول روجيه غارودي : « إذا كان من المشروع
تماما دراسة الأنظمة اللغوية وأنظمة الصنائع والمؤسسات والمعتقدات بحد ذاتها ،
وبصرف النظر مؤقتا عن مشروطيتها وتاريخها ، فإنه من غير المشروع استبدال دراسة
الممارسة الإنسانية في مجملها وفي تطورها بدراسة النتائج المتموضعة لهذه الممارسة الإنسانية وإن تكن النتائج الموضوعية والمتبينة لهذه
الدراسة تمثل انا ضروريا ، ولكنه محض آن واحد ، كما يشير سيباغ : ( إن
الانسان هو منتج لكل ما هو إنسانسي ... والبشرهم اللذين يخلقون اللغات والأساطير
والأديان والمجتمعات ) ، ولولا ذلك لانتهينا إلى تصور مستلب للبنية ، فبدلا من أن نرى فيها " نموذجا
" علميا بناه الإنسان سنمنحها قواما أنطولوجيا» (01).
لقد
اتهم غارودي البنيوية – من خلال هذا التصريح – بنجاهل النزعة الإنسانية ، وقولها
" بموت الإنسان" ، وذلك من خلال تطلعها – بل لهفتها – إلى العلم
والصرامة العلمية ، جعلها تفترض ضمنا أن الإنسان سيعرقل مسيرتها ويتعارض مع
منطلقاتها وتوجهاتها. وماتجدر الإشارة إليه حقا ، أن ثمة العديد من الفلسفات
والمحاولات العلمية النظرية التي حققت إنجازات علمية ضخمة مازالت تأثيراتها إلى
يومنا هذا مثل :الفلسفة الفنومنولوجية عند
هو سرل ، والدراسات الاجتماعية عند ريمون أون ، والدراسات النفسية عند فرويد ، وغيرها
من الدراسات التي حاولت تحقيق مبدأ الدقة والصرامة العلمية من دون شعور بأن مفهوم
الإنسان يمثل عقبة في سبييل تطورها ، بل على العكس من ذلك عملت على إعطاءه أبعادا
معرفية جديدة وجعلت منه محورا أساسيا من محاور فلسفتها . والسبب في ذلك يعود ، كما
يرى سارتر إلى أن البنيوية هي فلسفة التكنوقراط التي تعبر عن مرحلة
الاستعمار الجديد ، قائلا : « ... ومن هنا كانت البنيوية فلسفة تصلح لمجتمع تسود
وتحكمه التكنوقراطية ،لأن التكنوقراطي بدوره إنسان متخصص في ميدان فني أوعلمي
معين ويعجزعن إدراك أي شيئ إلا من خلال
ماتخصص فيه ، بحيث تكون نظرتة إلى الأمور
دائما جزئية محدودة ، بالرغم مما تدعيه من دقة وانضباط . هذا التكنوقراطي هو
النموذج المطلوب للإنسان في المجتمع البرجوازي لأنه عظيم الكفاءة والإنتاجية في
ميدانه ، ولكنه عاجز عن رؤية الصورة الكلية والأهذاف العامة ولا يخطر بباله أصلا أن
يسعى إلى تغيير المجتمع مادام هذا التغيير يفترض الرؤية الشاملة . ولذلك فإن
البنائية ،التي هي فلسفة مجتمع تكنوقراطي تخضع دون أن تشعر الايديولوجية البرجوازية السائدة في
مجتمع لا يطلب من الإنسان إلا الدقة والانضباط ، مع ترك التركيب الأساسي للمجتمع
على ما هو عليه دون أدنى تغيير » (01)
.
فالبنيوية
تدعو – حسب هذا النص –إلى تبني الحيادية والثبات
والبنى والأنساق ، بدل الحركية والتطور والشعور الجماعي ... فهي نوع
من الاستعمار الجديد الذي ساد العالم
المعرفي في تلك الحقبة، و الذي دعا العالم إلى عقل كلي يجمعه نموذج علمي واحد هو
نموذج البنية أو الثبات .
وأكرر
القول أن الإنسان هو ضحية المشروع البنيوي ، « فها هو بارث يعلن موت المؤلف ،
فيقول: بأن المؤلف شخصية حديثة النشأة وهي من دون شك وليدة المجتمع الغربي من حيث
تنبه عند نهاية القرون الوسطى ومع ظهور النزعة التجريبية ،الإنكليزية، والعقلانية
الفرنسية والإيمان بالفرد الذي واكب حركة الإصلاح الديني إلى قيمة الفرد أو الشخص
البشري كما يفضل أن يقال » (02). ينطلق بارث في حديثة عــن
" موت المؤلف" من خلال إبرازه حالة الذات في المذاهب الفكرية السابقة ،
كالفلسفة العقلية / المثالية والنقد الرومانسي الإنجليزي ، « ولذا فهو يعادي كل
دعوة تنادي بدراسة شخصية صاحب النص للوصول إلى الدلالة فيه » (03) . فقد كان المنهج
التاريخي للأدب يدرس ويحلل علاقات الأدب بالمكونات الاجتماعية والأخلاقية
والسياسية ويعلى من شأن المؤلف ، فالناقد الفرنسي سانت بيف (1804 -1868)
مثلا ، كان من أوائل النقاد اللذين ربطوا الأثر الأدبي بحياة صاحبه ، وأكدوا أهمية
العلاقة بين الأثر الأدبي وسيرة حياة مبدعه ، باعتبار أن المؤلف هو الوسيط بين
العمل الأدبي والمجتمع ، وشارك سانت بيف هذه المهمة العديد من النقاد ،أذكر منهم :
هيبوليت نتين ، مدام دوستايل ،لانسون ، وغيرهم ممن اعتمدوا الفلسفة الوضعية خلفية
لهم ،أي تلك الفلسفة التي تهتم بدراسة الأسباب والعلل التي تنتجها الظواهر ، ولهذا
السبب يذهب رولان بارث إلى أن المؤلف
شخصية حديثة إذ « يمكننا القول أنها بتدعت من طرف منهج تاريخ الأدب من طرف سانت
بيف ولا نسون ،لأنه وإن وجد دائما شخص يكتب لم يكن دائما مهما أن نعرفه : فهوميروس
لا يعرف هل وجد فعلا ، وأنا شيد البطولة في العصر الوسيط كانت مجهولة المؤلف ، فلم
يصبح المؤلف صورة مركزية إلا ابتداء من القرن التاسع عشر ، بحيث يرى فيه النقد
التاريخي مكان التقاء الأدب بالمجتمع وفي
الوقت نفسه فالعصر كله قد رقى الفرد المبدع إلى مصاف إلاله» (01) .
فالحديث
عن " موت المؤلف " كما يؤكدها بارث ، يدخل ضمن الحديث عن نظرية نقدية
حداثية عرفت " بنظرية التلقي " . إذ يقتضي الحديث عنها تناول محدودية الممارسات
النقدية و الإجراءات المنهجية السابقة ، فتاريخ المنهج خاصة في أوربا،عرف –كما رأيت– مسارا تطوريا ، بحيث أن المنهج اللاحق يتجاوز السابق محدثا شبه
قطيعة مع أسسه النظرية وأدواته الإجرائية ، فبعد موت الذات العارفة أو المتعالية
التي نادى بها أنصار الفلسفة المثالية ، وموت الذات الحاكمة التي نادى بها
الرومانسيون ،يقول رولان بارث وفكو في زمن الحداثة أو المعاصر بـ " موت
المؤلف " ، وهي فكرة تجد جذورها عند نيتشه – كما رأيت – في دعوته إلى "
موت الإله" ، وهذا كله يدخل ضمن " فلسفة موت الإنسان " - كما يسميها غارودي – لذلك يقول الدكتور عمر
مهيبل : « لقد جعلت البنيوية من الإنسان رمزا لغويا وسطحا لا امتداد له ،وقلصت
الظاهرة الفكرية النظرية إلى مجرد هيكل خاو من المعنى ،أي أنه شكل يخدف المضمون كنتيجة
» (02).
وهذا يعني أن البنيوية قد حررت الإنسان من
عبودية الفلسفات الأخرى ، ففي دعوة بارث وفوكو إلى موت المؤلف ، تعبير عن بداية
النهاية للميتافيزيقا الغربية التي تعود إلى أفلاطون وتصل إلى ديكارت وغيره من
الفلاسفة العقلانيين ،الذين قالوابسجن العقل أو الذات العارفة ، مرورا بنيتشه ومن
ورثوا أفكاره من بعده ،أي اللذين قتلوا الله الحقيقة ... وهذا ما قال به أيضا
العديد من نقادنا العرب من أن البنيوية جاءت لتحرير الذات من سجن العقل . فها هو
الدكتور عبد السلام المسدي يقول : « لكن أهم مميز يمكن لنا اليوم أن نستنبطه من
خصوصيات البنيوية على صعيد القراءة النظرية هو الموقع الجديد الذي احتله الإنسان
ضمنها ، فالفسفات المألوفة كانت دائما حسب تقديرنا تتطلق من شيئ ماهو واقع خارج الإنسان
لتنتهي إلى شيئ مايتجاوز حدود الإنسان بعد أن تكون قد غاصت في عالم الوجود عبر الكائن البشري ، فالإنسان من حيث هو
بذاته قد كان دوما واسطة العقد في القلق الفلسفي ولكنه لم يكن في حد نفسه علة
وجوده ولاغاية مطافه »(03).
وكذلك فعل جان بياجيه عندما رد على
اتهام غارودي للبنيوية بتجاهل النزعة الإنسانية حيث رأى « أنه
اتهام مبني على سوء فهم لمعنى النزعة الإنسانية ، ذلك لأن موجهي هذه التهمة
يعرفون الذات الإنسانية على طريقتهم الخاصة ، ثم ينعون على البنائية أنها تهدم هذا
الذي يرون أنه هو تلك الذات . وحقيقة الأمر في رأي بياجيه ،هي أن البنائية تفرق
بين " الذات الفردية " التي لا تتخذها البنائية موضوعا للبحث على الإطلاق
، وبين " الذات المعرفية " أي تلك النواة المعرفية التي تشترك فيها
الذوات الفردية كلها على مستوى واحد » (01) . فكلنا يعرف التطور المعرفي للإنسان ، وكيف أن
كثيرا مما يسمى بالعلوم الإنسانية في العصر الحديث ، كالعلوم النفسية والعلوم الاجتماعية
وعلم الجمال ، لم تكن من قبل سوى جوانب من المنظومة الفلسفية التي تشتمل عليها
نظرية المعرفة المقديمة . في حين ارتبط المنهج البينوي بفترة تاريخية معينة و
بحاجات و فئات اجتماعية معينة , و هو بهذا يكون قد أدى دورا ايديولوجيا , كما أدى
أدوار علمية – كنت قد كشفت عنها في السابق – و أعود للقول بأن النيبوية « قد حررت
الذات الإنسانية من عبودية الفلسفات العقلية قعزلتها عن الأشياء و لم تعد تتخذ
مرجعا في الوصول إلى الحقيقة , كما جعلتها شاهدا على عملها في النص , حيث يتسنى
لها إستنباط القوانين الموجودة في أنساق النص. لكن نسي من يدعو إلى هذه النظرة بأن
النبيوية و إن حررت الإنسان من سجن العقل , و ابعدته عن أن يكون مرجعا للفلسفة
العقلية في سعيها لبلوغ اليقين, فهي جعلته حبيس أنساق النص : إذ و إن ادعى أنه
يحلل النص لكنه يبقى خاضعا لبناه و لا يحق
له أن يضيق شيئا من عندياته , فأين هي إذن هذه الحرية ؟» (02)
.
سبق و أن ذكرت بأن بارث قد وجه إنتقادات
لاذعة لأسس المنبح التاريخي, و لمحدوديته التأويليــــة و قـد كانت أبرز هذه الانتقادات هي تلك التي
وجهها بارث في مقالاته الثلاثة المنشورة بين 1960-1963(*) و قد شاركه المهمة
العديد من المفكرين و الأدباء النقاد للذين حاولوا بواسطة التأثير العلمي و
الفلسفي تحويل وجهة النظر اتجاه الأدب و إستقلاليته عن العالم الخارجي. وإحتلت
البنيوية مركز الصرارة في هذا التحويل, عندما قالت بالتركيز على النص بدل المؤلف,
وهذا ما حدا ببارث إلى أن موت المؤلف إيذان بميلاد القارئ . .يقول الدكتور على حرب موضحا ضروب هذا
التحول : « في الرؤية الكلاسيكسة ذات الطابع الماورائي و اللاهوتي و الصادرة عن
نزعة الإنسان المركزية, لا مجال للحديث عن استيراتيجية النصوص. وحدها الذات
الأنسانية ، في هذه الرؤية, هي مصدر الرغبة والفعل, وهي التي تتخذ التدابيـــــر و الإجراءات وتضع
الخطط والإستيراتيجيات. و لكن النقد, نقد الذات و النص, زعزع مثل هذه الرؤية
بتفكيكه مفهومين: الأول هو مفهوم التمثل, والثاني هو مفهوم التمثيل. لقد كشف النقد
أولا أن الذات ليست بريئة في تمثلاتها للعالم و الأشياء,إذ يقوم بينها و بين
الموضوعات, بل بينها بين ذاتها عالم من الرغبـــات و اللعـــــــونات و الصور و الاستيهامـــــات
... و كشف ثانيــا أن الخطاب ليس شفافا في
تمثيله لعالم المعنى ... »(01).
يوضح
لنا صاحب التصريح ، سر النصوص و
استيراتيجيتها, حيث لم تعد النصوص مجرد أوعية شفافة لنقل المعاني, بل صار بوسعنا
عدم الإهتمام فقط بما يصرح به مؤلف النص, بل أن نلتفت وننتبه إلى ما هو مخبأ بين
السطور, إلى مالا يقوله الكلام وهذا لا يتم إلا بمساءلت النص و استنطاقه و تفكيك بنيته فلم يعد الدال يدل
مباشرة على المدلول , ولم يعد النص مجرد خادم للمعنى , بل أصبح للنص صمته و
فراغاته زله و أغراضه...لكن , هل يعني هذا تغييب المؤلف
تغيبا كاملا , لارجعة فيه, على الرغم من أنه وحدة من أبدع النص من خلال موهبته
التي وعت وجسدت من خلال التجربة فعل الإبداع , أم ماذا؟
قد
يجيبني على هذا السؤال المفكر الفرنسي – صاحب
فلسفة موت الإنسان – ميشال فوكو الــــذي قال:« إن من العبث أن ننكر وجود الكاتب
أو المبدع » (02). فيكون بذلك قد فرق بين ذات المبدع الفردية التــــــي
لا يجــــــب نكرانـــــها, وبيـــن الذات المعرفية للمؤلف التي يتولى ردها إلى
لعبة مــن الفــــــروق
و التمايزات (03).
والمقصود هنا هي الذات العارفة بالمفهوم الديكارتي .فإثر تحول النموذج من سلطة
المؤلف إلى سلطة النص,عرفت الدراسات الأدبية نقلة نوعية ساهم فيها التطور الذي
عرفته اللسانيــــــات و الدراسات الأنتروبولوجية البينوية, كما لعبت
الرياضيات والفلسفة العقلية الكانطية والجشطالية دور كبير في تغيير الرؤية للأدب, وفي
إعادة تحديد المفاهيم, كمفهوم الأدب و الأجناس الأدبية,و النص, والتركيز على مفهوم
العلاقة بدل الرجع, و الإهتمام بالكشف عن أسرار العمل الأدبي من داخله ... ولعل سر
ذلك يعود إلى ما يمارسه النص من سلطة على
السامع أو على القارئ ، من خلال « جملة الألاعيب والإجراءات التي يمارسها الخطاب
من خلال آلياته في الحجب والنسخ والتبديل.
والنصوص سواء في ذلك, وإن تفاوت نص عن آخر في القوة و الشدة. و هنا مكمن
السر في النص, أعني أنه يخفي استيراتيجيته ولا يفضي بكل مدلولاته. ولهذا فأنا أذهب
إلى أن قوة كل نص هي في حجبه وخالته لا في إفصاحه و بيانه, في إشتباهه والتباسه لا
في أحكامه أو إحكامه, في تباينه و اختلافه لا في وحدته وتجانسه. من هنا يقوم
التعامل مع النص على كشف المحجوب,أي على كشف الأوراق المستورة أو المستندات
السرية... » (04).
يبدوا من هذا التصريح أن الدكتور علي حرب يساند
النظرة النقدية المعاصرة, التي تركز على النص بدل المؤلف,و التي تقول بتفكيك
المفاهيم والبنيات في داخل النصوص للكشف عن حقيقتها.غير أن المحجوب في هذا التصريح
هو أن إعلان "موت المؤلف" كان بمثابة التبشير بميلاد القارئى
المبدع.وهذا ما صارح به بارث و كذلك الدكتور علي حرب,عندما قال:« نقد النص ليس
نقضا ولا مجرد تعليم وإنما هو قراءة ما لم يقرأ» (01).
وكنت قد
رأيت سابقا, كيف أن البنيوية قد تشددت في موقفها حول إنغلاق النص على نفسه, ولكنها
قالت أو بشرت بميلاد القارئ . وفي هذا التبشير إيذان بميلاد نظرية
نقدية حداثية, عرفت بنظرية التلقــــــــــي أو القارئ , وهي نوع من
القراءةالجديدة التي يتم فيها إشراك القارئ في إنتاج الدلالة, والكشف بالتالي عما
يسكت عنه النص أو يستبعده أو يتناساه.« ولهذا فشرط القراءة وعلة وجودها أن تختلف عن
النص الذي تقرأه وأن تكتشف فيه مالا يكشفه بذاته أو لم ينكشف فيه من قبل. وأما
القراءة التي تقول ما يريد المؤلف قوله,فلا مبرر لها أصلا لأن الأصل هو أولى منها
و يغني عنها.إلا إذا كانت قراءة تدعي أساسا أنها تقول مالم يحسن المؤلف قوله, وفي
هذه الحالة تغني القراءة عن النص وتصبح أولى منه» (02).
فقراءة
النصوص تتطلب إذن, قارءا متمرسا يملك آليات التحليل حتى يستطيع أن يحاور أنساق
النص لإنتاج الدلالة. وهذا ما رأيته مع البنيوي الفرنسي جاك لاكان الذي استطاع
أن يستثمر نظرية فرويد النفسية بطريقة جديدة,إنطلاقا من حسن قراءته لنصوص هذه
النظرية, فقد تجاوز مجال التقليد محاولا النفاذ إلى جوهر العملية النفسية لتحليلها
و استنطاقها وكشف معانيها الكامنة وراء دلالاتها و رموزها اللغوية, فإتخذ من اللغة
أو الرمز اللغوي أساسا للتحليل النفسي, وربط بينها و بين اللاوعي أو اللاشعور
الإنساني (*). و هذا
هو شأن كل النصوص الهامة والآثار الكبيرة, إنها تتطلب قراءة خلاقة تتجاوز المنصوص
عليه و المنطوق به. هكذا قرأ ميشال فوكو ديكارت بكشفه عن الوجه الآخر للعقل
الديكارتي, مبينا كيف أن خطاب العقل يخفي علاقة العقل باللاعقل, أي يستتر على
معقوليته.حتى التوسير الذي ادعى بقراءته لنص "رأس المال",أنه
يريد تخليص فكر ماركس من الشوائب الإيديولوجية التي شابته, إنما تأول ماركس وقراءة
جديدة مبتكرة, فاختلف بذلك عنه و قدم نسخة جديدة عن الماركسية...(03).
فالقراءات
الحية الفاعلة هي التي تعطي النصوص مصداقيتها,
وتشكل في الوقت نفسه نصوصا جديدة
و مختلفة عن النصوص السابقة أوالمقروءة...لكن, ألا
يمكنني ملاحظة أن هذه النصوص قد قرأت من قبل مفكرين بنيويين, بل أقطاب البنيوية
أمثال: فوكو, جالالاكان, بارث,ألتوسير...., وحتى دريدا هم من قاموا بقراءة هذه
النصوص المتشابكة الدلالات, والمتعددت المستويات, إنها النصوص الحية، الخالدة,
وليست النصوص البسيطة أو الشفافة .نعم فقد قام هؤلاء البنيويين باستنطاق هذه
النصوص, وتفكيكها, لتتجاوزوا ما يريد المؤلف قوله أو طرحه , للكشف عما لا يقوله و لا يفكر فيه عندما ينطق و
يفكر... وبذلك فقد انعكست مفاهيم البنيوية على كثير مما ساد فبلها, وأثرت فيها
تأثيرا كبيرا- كما رأيت-فلم يعد الأدب الوسيط بين القارئ والعالم الخارجي- كما ترى
نظرية المحاكاة- كما لم يعد تلك العبقرية التي تعتمد علــى مؤلفهـــــــــــا و
صاحبها, والأخطر من ذلك, أن القارئ لم يعد « إلا بنية أو إنتاج ثقافي مدرب على حل
الشيفرات وتتبعها ورصدها (هو شخص حرفي له أدواته ومعداته, كما يقول دريدا عن ليفي
شتراوس). وهكذا يتنازل المؤلف عن وظيفته للكتابة, وتمتص الكتابة وظيفة القارئ الذي
يتنازل للقراءة عن دور الفاعل. من هنا لابد أن تغيب مفاهيم الذاتية و الوعي لدى
المؤلف ولدى القارئ, وتتم عملية إزاحة الإبداع و التفرد و العبقريــــــــــــــــة و التميز,وهي
المفاهيم التي حكمت أدبية الأدب عصورا طويلة » (01).
وهذا ما
قامت عليه النظريات الحداثية, أو تلك التي عرفت بالنظريات "ما بعد
البنيوية" « إذا لا ينكر جاحد أن الإتجاهات المسماة"ما بعد
البنيوية"قد خرجت من عباءة البنيوية,بل إنها ظلت محافظة في بعض دعاويها على
ما أقرأته البنيوية,لا سيما مفهوم النص» (02) .
لايمكن
أن تفكر في"مابعد البنيوية" بدون "البنيوية", فهي- كما سبق أن أشرت- إستمرار
المنظور البنيوية الضد إنسانوية (Anti-Humaniste ) - المتأثرة بالسانيات- و التي تسلم ببعض معتقدات
البنيوية الراسخة. من مثل:أن اللغة مفتاح فهمنا لأنفسنا و للعالم من حولنا, ومسألة,
التعامل مع ,النصوص على أنها مادة معزولة ذات وحدة عضوية مستقلة, وأنها منفصلة ومعزولة
عن السياق وعن الذات القارئة. فها هو جاك دريدا- زعيم النظرية التفكيكية-« ينطلــــــق
في تعامله مع النصوص التــــــي يقرأهــــا ويقوم بتفكيكها
فهو يهتم بالمنطوق والمصرح به, ولايعني بالمتن وطروحاته,
بقدرها ما يلتفتإلى الهوامش و الحواشــــــــــي و يعني بإختلاف النص وتوتراته أو
يهتم بخداع الكلام ومخاتلته » (03).
وأخطر مسألة تتماثل فيما"ما بعد
البنيوية"و البنيوية فهي –حسب ظني--مسألة "المغالطة الشكلانية"- بتعبير
سعد البازغي- أي عدم الإهتمام بالمعنىأو المحتوى,ورفض الإعتراف بحضور العالم
الثقافي خارج العمل الأدبي.
43: P، "Introduetion à l'analyse linguistique"،patrick Guelpa(04)
Giulio C. Lepschy,
" La Linguistique
Structurale", P: 81
(01) أحمد عزوز، "المدارس اللسانية"، ص: 141.
(02) ينظر أحمد مومن، "اللسانيات – النشأة و
التطور"، ص:160 .
(03) المرجع نفسه: ص:163 .
(03)
أحمد عزوز،"المدارس
اللسانية"،ص:140.
(01)
خثير
ذويبي ، " البنيوية والعمل الأدبي – دراسة بنيوية شلانية ( لمرتبة مالك بن
الريب ) – " ، مطبعة موســـــــــاوي
ط (01) ،سطيف –الجزائر ،2001 ،ص: 14.
(01)
خثير
ذويبي ، " البنيوية والعمل الأدبي – دراسة بنيوية شكلانية ( لمرثية مالك بن
الريب ) – " ، ص : 34 ، وأنظر : الفصل الثاني من هذا البحث ،ص : 147 ومابعدها
.
(03) خثير ذويبي ، " البنيوية والعمل الأدبي – دراسة
بنيوية شكلانية (لمرثية مالك بن الريب ) " ، ص : 34 .
(04)
ينظر : المرجع نفسه ، ص:21 ،وينظر : سعد البازغي ،" استقبال الآخر –الغرب في
النقد العربي الحديث –" ص : 176 -177 .
(01) علي حرب ، " النص و
الحقيقة I – نقد النص – " ، المركز الثقافي العربي ، ط (03) ،
الدار البيضاء (المغرب) – بيروت( لبنان) ،2000م ، ص :12-13.
(01)
عبد
الله إبراهيم وأخرين ،" معرفة الأخر – مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة
" ، ص :66 -67، نقلا عن : روجية
غارودي ،" البنيوية –فلسفة موت الإنسان " ، ص:28.
(01) الزواوي بغورة ،" المنهج
البنيوي –بحث في الاصول والمبادئ والتطبيقات – " ،ص :181 -182 ،نقلا عن :
فؤاد زكريا ،" الجذور الفلسفية للبنائية " ،ص :34 .
(02)
عبد الغني بارة ،" البنيوية بين النموذج
اللساني والمعنى الفلسفي " ، " المبرز " ، ص :148 ، نقلا عن : فاضــل
ثامر " اللغة الثانية ( في إشكالية المنهج والمصطلح في الخطاب النقدي العربي
الحديث ) " ،المركز الثقافي العربي ط (01) ،الدار البيضاء / بيروت
،1994 ،ص :129 .
(01)
سعيد الغانمي ،" البينيوية : النموذج
اللغوي والمعنى الفلسفي " ، ضمن كتاب : " معرفة الأخر – مذخل إلى
المناهج النقدية الحديثة "، ص : 67 ، نقلا عن :فؤاد زكريا ، " الجذور
الفلسفية للبنائية " ،ص : 58.
(02)
سعيد
الغانمي ، " البنيوية : النموذج اللغوي والمعنى الفلسفي " ، ضمن كتاب :
" معرفة الأخر " ، ص : 67 .
اخي الكريم شكرا لك على المعلومات القيمة التي شاركتنا اياها ولكنني لم افهم كيفية ترتيب المصادر والمراجع هل يمكنك شرح لي الطريقة
ردحذف